Sunday, April 3, 2011

عجوز خرف


"وجدت هذه الرسالة داخل سلة مهملات في احد المقاهي الشعبية في العاصمة عمان "
الى  كل من يهمه الامر 
الى لا احد 
انا مجرد عجوز خرف , ها انا قد اخبرتكم بهذا وادعى الحاج  "ابو محمود " هذا هو الاسم الذي اعتاد الناس ان ينادوني به منذ مدة لا اعلم كنهها , وفي الحقيقة ان اسمي هو ابراهيم محمود ولولا انني نظرت اليوم الى وثيقة تدعى بطاقة الهوية لما استطعت تذكر هذا الاسم  ابدا. 
ذهبت اليوم صباحا الى احدى الدوائر الحكومية وتدعى دائرة الاحوال المدنية لاجدد بطاقة الهوية , لست ادري لم فعلت هذا ,بالطبع لم افعل هذا من اجل انتخاب شخص ما فايامي معدودة على هذه الارض ولن اقوم بافساد الحياة على اهلها ,لكن المفارقة عجيبة ستون عاما عشتها الى الان  ابي قال لي ان اخرس حتى ظننت ان هذا هو اسمي وامي فعلت نفس الشيء ,المعلمون الذي كانوا عتاة تعذيب كانوا لا يخاطبوننا الا بكلمة اخرس ورئيسي في العمل قال اخرس  والشرطي في الشارع امرني ان اخرس  وابنائي قالتها افعالهم وان لم تقلها السنتهم ,والمرة الوحيدة التي يسمحون لي فيها ان اصدر صوتا تكون بوضع هذا الصوت المختنق اصلا  داخل صندوق ابكم لا يسمع ولا يتكلم , لم اجدد هذه البطاقة التي تحوي معلومات عني اكثر مما يحتاج اي انسان لمعرفته عني  لاي شيء سوى انني مصاب بالملل , أوربما لانني اردت ان اثبت لنفسي وللعالم انني لا زلت موجودا !, وهل يكترث احد بوجودي , وجودي وعدمه هل يعني لاحد شيئا؟ ,ان كان لا يعني لي اي شيء فلا اظن انه يعني اي شيئ لاي احد اخر .
اكتشفت اليوم ويالحسن هذا الاكتشاف ان اليوم هو عيد ميلادي , لو كنت اعلم كيف يضحك الناس لانفجرت من الضحك كلما تذكرت هذا الامر ,اليوم هو عيد مولدي ,نسيت ان اخبركم انني لست لاعب كرة ولست قائدا  ولا مطربا شعبيا ,ولم اكن يوما سوى انسان كبقية البشر او اقل ,  ولهذا فلا اتوقع ان اليوم او غدا سيكون يوم عطلة بسبب حلول هذه الذكرى.
عيد ميلادي  لم يتنبه اليه ذلك الشاب الذي قام بتجديد الهوية لي وربما انه انتبه ولم يكترث ,اولادي هم الاحرون لم ينتبهوا لهذا  ليس هذه المرة فقط بل منذ انجبتهم زوجتي الى هذه الدنيا , وبالطبع لم اكن لانتبه انا لهذا الموضوع لولا انني قمت بائسا بالنظر الى هويتي , هي انسانة واحدة تلك التي فعلت هذا واهتمت لهذا الموضوع فعلا ,زوجتي الحبيبة  
لم يكن عيد مولدي يعني لي شيئا منذ اطلقت صرختي الاولى في هذا العالم ولكنه بات يعني الكثير من الامور منذ فارقت زوجتي الحياة ,فاليوم يا اعزائي الذين لا اعرفهم اليوم هو الذكرى العشرون لرحيل زوجتي ,لست اصدق ان الزمن يفعل بي هذا التاريخ الذي شهد صرختي الاولى شهد كذلك صرختي الاخيرة ,بكيتها كثيرا  بكيتها حتى كدت اصاب بالجنون او ربما انني جننت بالفعل , والان بعد عشرين سنة بدأت افكر انني لم ابكها هي بل كنت ابكي نفسي , كنت اعلم انني دونها اموت , انا من كفنت تلك الليلة  لا هي .
اسمها دائرة الاحوال المدنية ,اي كذب هذا ,احوال مدنية اي احوالي واحوال اشباهي من البشر ,هل فعلا هناك من يهتم , هل هناك فعلا من يأبه لكوني لم اذق للسعادة طعما منذ عشرين عاما  لا يابهون ولن يابهوا يوما ,ومن انا ليأبهوا لحالي  فانا في افضل الاحوال اقل من انسان  بكثير .خرجت من تلك الدائرة اللعينة لا ادري الى اين تقودني قداماي التين وكما بقية اجزاء هذا الجسد فعلت بها السنون فعلتها 
هل هاتان هما اليدان التان اعتادتا ان تشقا الصخر ولا تباليان
هل هاتان هما الساقان التان كانتا تقطعان بي الاميال دون ان تكلا او تتعبا 
لم انظر الى المراة منذ عشرين سنة الا انني اظن لك المعول المسمى وقتا قد حفر فيه خنادق جعلت منه اشبه بخريطة الوطن 
بحثت عن اي شيء يذكرني بانني انسان فلم اجد , ابتسمت بوجه طفل صغير فبكى خوفا ,ابتسمت لشابة جميلة فاشاحت بوجهها عني ,هل ظنت انني اغازلها ؟  .
قادتني خطواتي الثقيلة كالخريف الى هذا المقهى ,لم اعتد دخول المقاهي ولكنني الان مجبر . لا اريد العودة الى ذلك القبر المسمى مأوى العجزة ولااستطيع الذهاب الى بيوت ابنائي او بيوت بناتي ,لم اكن اتصور في يوم من الايام انني قد اصل الى هذا الحال ,منذ سنوات فقط كانت كل الابواب مشرعة في وجهي اما الان فابحث عن شباك مفتوح فلا اجد , ربما فعلت بي الايام فعلها فاصبحت عجوزا خرفا ,ربما, ولكن هل يعني هذا ان يتكر لي ابنائي الذين ربيتهم , لم اكن الاب الافضل في العالم ولن اكون ,وربما لو عادت بي الايام لارتكبت نفس الاخطاء التي ارتكبتها اول مرة ,لكن باي حق يعاملونني هكذا ,بناتي يسلطن علي ابنائهن الذين هم احفادي فيشتمونني  وسط قهقهات امهاتهم اللواتي لا يحاولن  على الاقل اخفائها  ,اما ابنائي فيكفي ان اقول لكم ان كبيرهم قد طردني من البيت  ,اعني طردني من البيت بيتي ,البيت الذي جُبل بعرقي وبني على ضلوعي  يطردني منه ابني الاكبر,و يقول لي ان هذا الملجأ  او هذا القبر المسمى دار عجزة افضل لي ,لم اناقشه ولم ادافع عن بيتي ,فلملمت ما تبقى لدي من كرامة وخرجت الى ذلك القبر الذي رماني اليه ابنائي .
ربما انني مجرد عجوز خرف  ربما ان ما اتفوه به مجرد حماقات وجنون اطبق على عقلي المنهك لكنني مع هذا كله استحق ان  يستمع الي احد ما ,النادل لن يستمع الي ولو رشوته ليفعل ذلك ,ولن اغامر بالتحدث الى الشبان الذين جلسوا بجوار  طاولتي يتكلمون بكلمات لا افهم منها الا انهم يضعون بين كل جملتين جملة تحتوي على افظع الشتائم ,نعم انا عجوز خرف بالتاكيد!!!, فها انا اطلي صفحة بيضاء بسواد لن يفهمه احد ولن يعني لاحد شيئا على الاطلاق  وعلى الاغلب لن يراه احد ,فكما قلت قبل قليل لم اكن في يوم من الايام شخصا مهما لاحد باستثناء امراءة انتزعت من بين يدي انتزاعا 
ستون عاما قضيتها في هذا العالم , ولكنني مستعد لان اقايض هذا العمر باكلمه واياما متبقية من عمري او ربما ساعات فقط  بيوم اقضيه الى جوار تلك المراة التي جعلت مني انسانا, هل جربتم طوال حياتكم ان تصلوا الى ان  يفهمكم شريك حياتكم بمجرد نظرة  او من خلال طريقة تنفسك , ان لم تجربوا هذا الامر وتعيشوه فانتم لم تعيشوا بعد  , ان امراَ  كهذا لا يحدث  لك الا ان كنت محظوظا جدا  واقول لكم انني كنت محظوظا وان هذا الحظ قد انتهي  قبل عشرين عاما بالضبط 
سأترككم الان فانا مضطر الى الذهاب ,زوجتي تنتظرني على احر من الجمر,انا اعلم هذا جيدا 
الم اقل لكم انني عجوز خرف  ولكنكم لا تصدقون.