جنازة مهيبة تسير في شوارع العاصمة , من لا يعلم جنازة من هذه لا شك وانه سيظن انها جنازة رئيس من الرؤساء او ثري من الاثرياء
,الاف البشر خرجت الى الشوارع باكية الفقيد الغالي , وفود شعبية من مختلف انحاء الوطن شاركت في الجنازة وشيعت ,خطباء المساجد والمنابر والكنائس تحدثوا عن الفقيد الراحل , مناقبه لا حصر لها , قيل في رثائه ما لم يقل في احد ,فتحت بيوت العزاء في ارجاء الوطن كافة وفي مختلف سفارات الوطن حول العالم , نكست الاعلام واعلن الحداد , فالفقيد ليس رجلا عاديا ,بل انه ليس انسانا عاديا , واي انسان يستطيع تحقيق ما حققه هذا
الراحل لامته وشعبه, ندبته الندابات وشقت حزنا على رحيله الاثواب ,من لنا من بعدك , يا ويلنا ويالعارنا .
الى اين اخذته ايها الموت , اعده الينا فقط ساعة علنا نسمع منه ما يعزينا
الاف مؤلفة وجموع تذكر بيوم القيامة احتشدت حول قبره الذي لم يكن كباقي القبور ابدا بل كان ضريحا من الاضرحة لا شك في ذلك .
والقصة لم تبدأ بجنازة ولا بموت بل بدات قبل ذلك بشهر او اقل بقليل
حيث كان هذا الراحل ذاته الملفوف بعلم بلاده المفدى يقبع داخل احد الاقبية بوجه مدمى وجسد عار موثق الى صليب ,تنهال عليه السياط من حيث لا يدري .
بكى كطفل جائع , صرخ كبكر تغتصب , ضحك كبالبدر ,القى على سجانيه شعرا , فعل كل ما يخطر على باله , توسل , استغاث ناشد بقايا الانسانية في ارواح جلاديه لكن دون جدوى
سياط تتلوها سياط
كدمات تمحو كدمات
- ارجوكم اخبروني عن ذلك الذنب اللعين الذي اقترفته
اعتذر لكم جميعا
اعتذر لامهاتكم وابائكم وجدودكم الاولين
لكن ارجوكم , اتوسل اليكم كفى
هل كتبت يوما شيئا فتاذيتم منه ؟
هل كانت احدى قصائدي هي سبب رسوبكم في المدرسة
حسنا اعتذر لكم عن كل حرف منها
_ اخرس ايها العجوز اللعين
لا تتفوه باي شيء سوى اخبارنا بما نريد
وما الذي تريدونه اتوسل اليكم اخبروني ؟
_ انت تعلم تماما ما نريد فلا داعي للتظاهر بالغباء ابدا
_ اقسم بالله انني لا اعلم ابدا عم تتحدثون
اقسم كما اردت فلن نصدقك
ما نريده منك ستخبرنا عنه شئت ام ابيت ,ان عاجلا ام اجلا
ويستمر الحال على هذه الصورة اسبوعا كاملا
بينما تتواصل اعترافات العجوز بالخروج من صدره
كل اخطاء البشر منذ نزل ادم الى الارض وحتى اللحظة التي سلخت فيها السياط جلده , هو المسؤول الاول والوحيد عنها
ومستعد للتوقيع بل والبصم ايضا على هذا ولكن فليمنحوه شيئا من الراحة
ومع ذلك لا يقنعون ولا يقتنعون
السياط تنهش جسده وصوته لم يعد يخرج من حلقه لشدة ما صرخ
يجرب استعطافهم فلا يعطفون
_ ارجوكم انهوا هذا العذاب الذي اعيشه , اما من ضمير تملكونه , اما من انسان في داخلكم , ويحكم امن نساء ولدتم ام من ان صوان هو من انجبكم
_ اخرس ايها القذر ولا تتفوه بحرف اخر والا
_ والا ماذا , اتعلم شيئا ؟
لم يعد بامكانكم ايذائي بعد هذه اللحظة , نعم لا تستطيعون ايذائي ولو اجتهدتم في ذلك
ان كنتم رجالا فعلا , ان كنتم تستحقون الفوز بهذا الشرف , فانهوا حياتي وخلصوني من هذا الجحيم وانا اعدكم ان لا اشكوكم الى محكمة السماء
حيث لا يظلم مسكين , ولا ينجو ظالم
اقتلوني ان كان فيكم بقية من رجال!!!.
_ اهه اهه "يضحك الجلاد الشاب بسخرية"
ايها الاحمق اما ان لك ان تعلم انك لن تموت الا عندما نشاء ".
(2)
ايام بعد الافراج عنه من معتقله
ايام قبل جنازته
ينهض العجوز "اللعين كما كان يحلو للجلاد وصفه " خائفا ممتقع الوجه مذعور الملامح , يصرخ ,نعم يصرخ الانسان الذي يحتضر في داخله . فتستيقظ على صراخه شابة قافزة من الكرسي الذي كانت تنام عليه الى جواره
ما بالك يا ابي ؟ ما الذي حدث ؟ وتقوم قبل ان يجيبها باستدعاء الممرضة علها تنقذ والدها الذي تظن انه يكاد يرحل عنها
وما هي الا لحظات وتكتشف بعدها ان الموضوع انما كان مجرد كابوس مرعب راود والدها العجوز .
تحاول الفتاة اخراج والدها من الجو الكئيب الذي يعيش فيه الا انها لا تستطيع مهما حاولت
فكرة واحدة تسيطر على راسه
فكرة واحدة تجول في راسه وتملؤ نومه كوابيس مفزعة
"اما ان لك ان تعلم انك لا تموت الا حين نشاء "
"لم اكن شجاعا في حياتي ولا كنت ابدا رجلا يعتمد عليه وليس من مزاياي الصدق ولا النزاهة ولكنني كنت طوال حياتي رجلا حرا
والاكثر من هذا انني كنت عنيدا
لم اكن بطلا في يوم من الايام ولا اريد لنفسي ان اكون
لكنني عنيد جدا وارفض ان اوافق على ما لا اريد الموافقة عليه
كيف يجرؤ ذلك اللعين على ان يقول انني لا اموت الا حين يشاء
لا يا عزيزي انا لست سوى عناد متنكر على هيئة بشر
انا عنادي وعنادي فقط
ولا مت ولا عشت ولا كنت ان كان موتي وحياتي سيتحكم به مافون مثلك
يتحدث مع نفسه بصوت خفيض بينما ملامح الرعب ترتسم على وجه ابنته الوحيدة
ابي ارجوك ما الذي تتحدث عنه
من الذي سيموت ؟ ابي ما الذي يحدث ارجوك اخبرني ؟
لا شيء لا شيء يا عزيزتي عودي الى النوم انه مجرد كابوس مزعج
ومع انها لا تصدقه وهو يعلم ايضا انها لا تصدقه الا انها تمتثل لما قال والدها حيث انها اعلم الناس بوالدها وانه لن يبوح لها بما يجول في راسه الا عندما يريد ذلك
يجلس طوال تلك الليلة مع نفسه مفكرا متأملا ما الحل لهذه المعضلة
يريد ان يموت عندما يريد ان يموت لا ان يموت برغبة جلاد ليس شيئا دون هذا السوط الذي يلوح به
كان يفكر انه لا بد وان يموت حين يود الموت فقط
قرر ان يموت
هكذا فجاة ودونما انذار مسبق قرر انه لابد وان يموت
صحيح انه اعتبر الانتحار استسلاما
هل ينتحر ؟
ربما كان يود الاستسلام لكنه
اعند من ان يقبل بهذا
ومع ذلك قرر ان يموت
فمات .
(3)
عند القبر تبكي الابنة كما لم تبكي انثىَ من قبل
ابي هم من قتلوك , ابي الى اين رحت ارجوك , ارجوكم ضعوني معه في قبره
تنتحب وتبكي فتبكي لاجلها الجموع الملتفة حول القبر
بل ان الجلاد الذي كان السبب في رحيل والدها عن الدنيا بكى كذلك
فالجنازة حضرها الجميع
ان كانوا مؤيدين محبين للراحل فقد حضروا لوداعه فعلا
وان كانوا شامتين فقد حضروا لتطمئن قلوبهم ويتأكدوا ان هذا العناد قد كسر اخيرا
دقائق على انتهاء الخطباء من القاء كذبهم او خطبهم المدفوعة الاجرغالبا
حتى انفضت الجموع وعاد البشر كل الى حياته العادية وكانا شيئا لم يكن
كل يعود الى مواصلته حياته العادية التي قاطع رتابتها هذا الموت المفاجئ المنتظر
تعود الفتاة الى بيتها وتبدا باستقبال المعزين بوقاة الراحل العظيم
هي تعلم تماما ان اكثرهم كذبة افاكون بل وتعلم ان من بين من يعزون بوالدها ويتباكون بحرقة عليه اولئك الذي قتلوه او على الاقل كانوا السبب في موته
ينتهي يومها برغبة ليست بالغريبة ابدا
فتتمنى لو ان بها من القوة ما يمكنها من قطع كلتي اذنيها ,لانها صارت تشمئز منهما لكثرة ما صب فيهما في هذا اليوم من اكاذيب ,وبينما هي على حال الحال تستغرق في النوم فيأتيها والدها في الحلم ويطلب منها ان تعود الى قريته التي كان فيها قد ولد
وما ان تشرق شمس النهار حتى تغادر العاصمة عائدة الى قرية والدها التي لن يتعرف عليها فيها احد ابدا
(4)
ضحك هستيري يسيطر على الجلسة ,من يراهما يظن انهما مجرد سكيرين اصابتهما نوبة ضحك , والغريب اكثر في هذه الضحكات انها صادرة عن رجل وفتاة جالسين امام تلفاز يعرض صورة جنازة الكاتب الراحل
لو انني لم ارى الوجوه لظننت ان الضحك انما يصدر عن "الجلاد" او من ذلك الشخص الذي امر بالجلد اصلا
ولكن لا
فالضحك يصدر عن الفتاة ووالدها
يا ابنتي قالوا لي عندما كنت تحت التعذيب انني لا اموت الا عندما يريدون
يبدو انهم على الرغم من سنين اعتقالي الطويلة لا زالوا لا يعلمون عن عنادي شيئا
عندما يرفض هذا الراس شيئا فلا عتادهم ولا كل سياطهم ولو اجتمعت قادرة على ارغامه على القبول به
سبب الكتابة : رأيت في المنام ان محمد الماغوط قد زارني في بيتي واخبرني ان قصة وفاته كانت مجرد مزحة
فاستيقظت من نومي فزعا باحثا عن نصف دليل يصدق الحلم لكن للأسف دون جدوى
الى الراحل العظيم , الى الثائر السوري , الى الاديب العربي
شكرا
وها هي بشارتك التي سبق وقلت :"الطغاة مثل الارقام القياسية لابد وان تتحطم يوما " هذه البشارة تتحقق اليوم في درعا كما تحققت في ميدان التحرير وفي سيدي بو زيد
بقلم
jaber jaber