كنت اشاهد قبل قليل الفيلم المصري الرائع وافضل ما قدم عادل امام وعبد المنعم مدبولي في مجال السينما , فيلم "احنا بتوع الاتوبيس " وهو فيلم يروي نزرا يسيرا مما كان يحدث في السجون الناصرية خلال تلك الحقبة الموغلة في الظلام من تاريخ الامة العربية , حقبة ميزتها ثلاثة امور وهي : خطابات حنجورية من سمعها ظن لقوتها اننا قاب قوسين او ادنى من تحرير القدس , دم عربي مستباح على يد من زعموا انهم قاموا بالثورة في سبيل رفعة هذا الانسان العربي , والامر الثالث هو انه وبعد كل خطبة عصماء من تلك الخطب كانت مساحة الارض المحتلة تزداد .والفوارق الطبقية تتوسع , و تحقيق العدالة الاجتماعية يصبح وهما .
هذه هي ابرز سمات ذلك العصر الذي يصر البعض لأسباب اجهلها ان يترحموا عليها مرحلة شهدت من القمع للحريات ما لم تشهده العهود السابقة التي لم يكن الحكام خلالها يتغنون بالحرية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية , مرحلة اختصر فيه الوطن بتاريخه الموغل في القدم بشخص الزعيم القائد الاب الرمز الاوحد , فباتت الهزيمة هي استقالة هذا الزعيم او وفاته , ولذا صار هو الخالد والوطن هو الفاني , صار هو ما تستنفر اجهزة الامن للدفاع عنه وللوطن الحناجر والخطب الغرّاء .
والمؤسف ان هذه السمات لم تقتصر على مصر وحدها , بل تعداها الامر الى "كل" الدول التقدمية , فما حدث لمصر وفي مصر مماثل بل ومطابق لما حدث في سوريا العربية ذات الرسالة الخالدة , وما حدث لعراق البعث العربي الاشتراكي .
وكأن هذه الانظمة قد قرأت على شيخ واحد فعلمها اصول القمع والاستبداد وسفك الدماء , علمهم كيف يلعبون بمشاعر البشر فينزلون لدى موت الاخ القائد ألوفاً وملايين لوداع القائد الملهم
ولو اقتصر الامر على الامة العربية لقلنا ان هذا جزء من تراثنا , ان نحول كل ايدلوجية الى وسيلة استبداد , وان نلعب بالعواطف كما هو طبعنا , وان نحترف الخطابة فهذه موهبتنا , لكن لا , فالامر تعدى محيطنا العربي الى العالم .
رأينا نفس السلوكيات الفظة تصدر عن زعماء تشدقوا بما تشدق به زعماؤنا , رأينا هذا في يوغسلافيا , وفي الاتحاد السوفيتي , رأيناه في كوبا وكوريا الشمالية ,,,,, ولو انني بحثت قليلا لأتيتكم بالعديد من الامثلة وبالكثير من الشواهد على هذه الجرائم والفظائع التي ارتكبت كلها باسم مبادئ عظيمة
ولو كان الامر محصورا باليسار واهله لهجرناهم واعلنا كفرنا بهم , لكن الامر في اليمين مشابه تماما لما هو عليه في اليسار , لا بل هو اكثر قذارة واشد ضرار , والامثلة على هذا غزيرة وفيرة , فمن تراثنا العربي الاسلامي بإمكاننا قراءة ما اقترفه الامويون في الناس من تقتيل وتشريد باسم توحيد الامة , ورص صفوفها ! ومن المسيحية بإمكانك ان تنتقي وتختار ما شئت منتقلا من محاكم التفتيش الى الحروب الصليبية الى سلوكيات الكنيسة مع العلماء والمفكرين الذين اتهموا بالهرطقة واعدموا ,,, أو كادوا !
وخطورة جرائم اليمين انها كلها _تقريبا _ ترتكب باسم الرب وباسم الدين , حتى لا يعود بإمكان الباحث المدقق التعرف الى الحقيقة والتمييز بين الدين كفكرة وبين الدين كتطبيق , بين ما تقوله الفكرة وبين تجاوزات مطبق الفكرة , فاتهم الدين بجرائم لم يدع اليها وهو منها براء , تمام كما اتهمت افكار اقرب الى الارض منها الى السماء بانها كانت السبب وراء شقاء البشر ومعاناتهم
وهذه الامثلة وهذه الأفكار دعتني وبشكل جدي الى البحث في اصل الداء , وبعد هنيهة من التفكير وصلت الى نتيجة مبدأية مفادها ان العيب ليس في معظم الافكار سابقة الذكر , بل العيب في امرين.
الاول هو الاستعداد الفطري لدى غالبية البشر لممارسة القمع والقتل والذبح بشكل فردي وجماعي
والامر الثاني هو السلطة , نعم السلطة
وان اردت توضيح النقطتين فسأقول انه فيما يتعلق بالانسان فقد قال كثير من العلماء المعتمدين على ابحاث مطولة وتجارب زعموا انها دقيقة ان لدى الانسان العادي قبولا فطريا _ ان جاز التعبير _ لممارسة التعذيب , مهما كان عمر هذا المعذِّب او المعذَّب , مهما كان مستواه التعليمي , ذكرا او انثى , وكما هو الحال في التعذيب فإنه تماما في القتل الفردي او الجماعي
اما الأمر الثاني فهر اصل الداء ومكمن البلاء , وهو الكرسي اللعين , الكرسي الذي دفع مبارك الى قتل شعبه , ودفع علي صالح الى التشبث به على الرغم مما حل به واصابه
انها السلطة يا سادة ولمعرفة اثرها دعونا نبتعد عن اوساخ الارض " اعني الحكام " ونتوجه الى من هم تحتهم بكثير
انظر الى زميلك في العمل , والذي كنت واياه اصدقاء الى ان جائته الترقية , هل ظل حاله نفس الحال ؟ هل تعامله معك ومع زملائه نفس التعامل
بل وقبل هذا , قبل ان تحل به الترقية ويصبح انسانا من طينة مختلفة عما عجن منها بقية البشر , هل لاحظتم ان مجرد الاغراء بالسلطة "الترقية " يدفع الانسان مهما كانت اخلاقه الى ان يصير تنافسيا بشكل بشع , فتصدر عنه فجأة تصرفات لم تكونوا تتوقعونها منه .بالذات , فيصبح احدنا واشيا , متربصا بأخطاء الاخرين , مزاودا , متلصصا
هذا في الشركات والوظائف العادية فما بالنا برأس الهرم في البلاد , ما ظنكم بمن تتوفر له السلطة المطلقة , من يتمكن من الوصول الى حالة اذا أمر فيها اطيع , واذا سأل اجيب ؟؟؟
للأسف لا املك حلولا لهذه المعضلات , ولست مقتنعا بالاناركية كحل جذري لمشكلة السلطة وتغولها
وقبل ان يقول لي احدكم ان الديمقراطية هي الحل وان الدولة الليبرالية قد اجتازت مشاكل الدول الشمولية دعونا ننظر الى ما تفعله امريكا , الدولة الاكثر قوة في العالم , وكيف تتعامل مع بقية البشر وكانهم اجناس اقل من الانسان الامريكي كرامة وانسانية
كالعادة في مدونتي انا لا اطرح حلولا لمشاكل , ولا حتى اتعب نفسي في اتسعراض كافة جوانب المشاكل , انما انا اصرخ حتى لا ينفجر الغضب داخل صدري .