استعراض ومراجعة لكتاب هرطقات 2 عن العلمانية كإشكالية إسلامية _إسلامية
الجميل والمفيد دوما جورج طرابيشي , وكتاب مدهش مثير للكثير من الأسئلة , حول كل ما نؤمن به .
لماذا قرأت هذا الكتاب تحديدا ؟ أردت كتابا يتحدث عن الطائفية , فنصحت به
وقد كان خير معين على تحمل كمية القرف الطائفي الذي نشاهده هذه الأيام في
العالم العربي
يشاع في الخطاب العربي , أو في بعضه على الأقل أمران ينفيهما طرابيشي هنا في كتابه
, أول هذين الأمرين أن العلمانية هي إشكالية مسيحية مسيحية , فيرد هنا بأن
ألف سنة أو يزيد من الصراع بين السنة والشيعة تدل على أن هناك إشكالية
إسلامية إسلامية وأن العمانية قد تكون جوابا لها
والأمر الثاني الذي يجيب عليه هنا وفي هرطقات 1 طرابيشي هو أن العلمانية كما هي صالحة للمسيحية فهي كذلك صالحة للإسلام
ويدافع طرابيشي عن العلمانية وعن مسيحيي الشرق بأن يقول أن العلمانية ليست
مشكلة مستوردة كما يقول برهان غليون , وليست مؤامرة من مسيحيي الشرق لهدم
الإسلام كما يطرح سفر الحوالي !
وللتدليل على صدق ما يذهب إليه يضع
طرابيشي يده و وعيوننا في عش الدبابير ويستعرض التاريخ مدللا على أن
الطائفية كانت أمرا ثابتا في التاريخ الإسلامي الممتد ,وهنا تبدأ المرحلة
الأكثر إيلاما في الكتاب , عندما تقرأ عن كمية التحريض الطائفي , عفوا عن
كمية الفعل الطائفي المقزز , عن كمية الدم المراق , عن المدن المهدمة ,
وأماكن العبادة المدنسة , وعن المؤامرات التي كانت تحاك ليل نهار للنيل من
هذا الآخر الذي اتهم بكل شيء , فاستبيح دمه وعرضه وماله بطريقة مفزعة ,
والكلام هنا عن الطائفتين الكبريين في الإسلام , واللتين لم يقصر أبناؤهما
في إظهار حقدهم لحظة تمكنهم .
وتأخذ المسألة الطائفية من الهرطقات مئة
صفحة , لينتقل بعدها للحديث عن العلمانية التركية , والمسألة الكردية ,
وهنا للأمانة يسقط طرابيشي أستار أتاتورك , ويظهر الوجه القذر للعلمانية
التركية والسلوك التركي الرسمي إزاء شعب عريق وأصيل كالأكراد
معلومات
كثيرة ترد في هذين الفصلين لم أكن قد سمعت بها من قبل ولا حتى خطر ببالي أن
أقرأ عنها , والكلام الذي يورده طرابيشي عن المسألة الكردية والمعاناة
التي عرفوها في القرن العشرين مفيدة لي جدا كفلسطيني , إذ كان الإعتقاد
السائد عند "بعض" الفلسطنيين دوما هو أنهم وحدهم من يعانون , وأنهم دونا
عن سواهم من يستحقون, التعاطف وتستحق القضية الكردية كثيرا من الدعم ,
وكثيرا جدا من القراءة
أما لماذا يورد طرابيشي مسألة إسقاط الخلافة
والتجربة العلمانية التركية والمسألة الكردية , فكل هذا يأتي في سياق
الحديث عن العلمانية كممكن في العالم الإسلامي , فتركيا كانت حتى بدايات
القرن العشرين حاضرة الخلافة الإسلامية , فكيف جرى هذا التحول الجذري فيها
نحو العلمانية , هذا ما يشرحه لنا أبو العلمانية التركية أتاتورك نفسه
يقول طرابيشي ما معناه أن الحداثة مركب لا يسير إلّا بعجلتين : العلمانية
والديمقراطية , وإن كانت تركيا قد "نجحت" في علمنة المجتمع والدولة * فإنها
قد فشلت فشلا ذريعا في دقرطته , والدليل على ذلك هي القضية الكردية ,
وخلال استعراضه لهذا الفشل يرينا طرابيشي تصريحات عنصرية مخزية لمسؤولين
أتراك , حتى تكاد تشعر أنهم أبناء التجربة النازية !
ومن النقاط التي
يرد عليها طرابيشي في هذا الكتاب هو المقولة " الشعبوية " التي تتحدث عن
كون الأنظمة العربية أنظمة علمانية , ويستدل طرابيشي بنصوص من الدساتير
العربية للتدليل عل وجود الدين أو على استغلال الحكام للدين وللخطاب الديني
لتمرير قرارتهم ولاكتساب شرعيتهم , من الدستور المغربي الذي يصف الملك
بانه أمير المؤمنين وحام الحمى والدين وصولا إلى الدستور الناصري !
هذا بالنسبة لي أهم ما ورد في الكتاب , على الرغم من وجود عدة مقالات اخرى
لم اشر لها في هذه " المراجعة " كمقاله المطول عن عبد الرحمن البدوي الكاتب
العربي غريب الاطوار , وكنقاش طرابيشي لمسألة الإلتزام وأهميتها وكذلك
إيضاحه للعلاقة الملتبسة "المأساوية" بين فلسطين وأوروبا , منذ أول حملة
"صليبية" مرورا بنابليون ووعد بلفور والمسألة الششرقية وقرار التقسيم ,
وصولا إلى الوقت الحالي .
وينهي طرابيشي هذا الكتاب المذهل ببحث قصير حول الإلحاد , وهو بحث مفيد للغاية وإن كان يستلزم منك الكثير من البحث والقراءة .
خاتمة : ستجد في هذا الكتاب بعض الأجوبة , لكنك ستجد فيه وسيثير فيك أسئلة
أكثر من تلك التي كانت لديك قبل قراءة هذه الهرطقات , وهذه هي بالتحديد
كما أرى مهمة الكتب الجيدة .
* يجب التفريق بين نموذجين
للعلمانية , الأولى علمانية شعبية مجتمعية أنتجتها الثورة الفرنسية ,
والثانية علمانية فوقية "فرضت" من أعلى إلى أسفل هي العلمانية التركية ,
وبين العلمانيتين فارق شاسع